فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحكى أبو حاتم عن عبيدة أن يوسف لم يهم وأن الكلام فيه تقديم وتأخير أي ولقد همت به ولولا أن أري برهان ربه لهمّ بها وقال تعالى حاكيًا عن المرأة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وقال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء}، وقال تعالى: {وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله} الآية وقيل في قوله: {وهم بها} أي بزجرها ووعظها وقيل هم بها أي همه امتناعه وقيل هم بها أي نظر إليها وقيل هم بضربها ودفعها وقيل هذا كله كان قبل نبوته وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة زليخا حتى نبأه الله فألقى عله هيبة النبوة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسه هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله، وأما الإمام فخر الدين فذكر في هذا المقام كلامًا طويلًا مبسوطًا وأنا أذكر بعضه ملخصًا، فأقول قال الإمام فخر الدين الرازي: إن يوسف كان بريئًا من العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب فإن الدلائل قد دلت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا يلتفت إلى ما نقله بعض المفسرين عن الأئمة المتقدمين فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموها وأتبعوها فإظهار الندامة والتوبة والاستغفار كما ذكر عن آدم عليه السلام في قوله: {ظلمنا أنفسنا} الآية وقال في حق داود فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب وأما يوسف فلم يحك عنه شيئًا في ذلك في هذه الواقعة لأنه لو صدر منه شيء لأتبعه بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله ذلك عنه في كتابه كما ذكر عن غيره من الأنبياء وحيث لم يحك عنه شيئًا علمنا براءته مما قيل فيه ولم يصدر عنه شيء كما نقله أصحاب الأخبار ويدل على ذلك أيضًا أن كل من كان له تعلق بهذه الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام عما نسب إليه واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف والمرأة وزوجها والنسوة واللاتي قطعن أيديهن والمولود الذي شهد على القميص شهدوا ببراءته والله تعالى شهد ببراءته من الذنب أيضًا.
أما بيان أن يوسف ادعى براءته مما نسب إليه فقوله هي راودتني عن نفسي، وقوله: رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه.
وأما بيان أن المرأة اعترفت ببراءة يوسف ونزاهته فقولها: أنا راودته عن نفسه فاستعصم، وقولها: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين.
وأما بيان أن زوج امرأة اعترف أيضًا ببراءة يوسف فقوله: {إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}.
وأما شهادة المولود ببراءته فقوله: وشهد شاهد من أهلها الآية وأما شهادة الله له بذلك فقوله تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} ومن كان كذلك فليس للشيطان عليه سلطان بدليل قوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} وبطل بهذا قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيد المرأة حتى جمع بينهما فإنه قول منكر لا يجوز لأحد أن يقول ذلك.
وأما ما روي عن ابن عباس: إنه جلس منها مجلس الخائن فحاش ابن عباس أن يقول مثل هذا عن يوسف ولعل بعض أصحاب القصص وأصحاب الأخبار وضعوه عن ابن عباس، وكذلك ما روي عن مجاهد وغيره أيضًا فإنه لا يكاد يصح بسند صحيح وبطل ذلك كله وثبت ما بيناه من براءة يوسف من هذه الرذيلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه وما صدر من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
فإن قلت: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله لولا أن رأى برهان ربه فائدة.
قلت: فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين أحدهما: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همّ بدفعها لقتلته فأعلمه بالبرهان أن الامتناع من ضربتها أولى صونًا للنفس عن الهلاك الوجه، الثاني: أنه لو اشتغل بدفعها عن نفسه لتعلقت به فكان في ذلك أن يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله أن الشاهد يشهد بأنه ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن وذا تمزق من خلف كانت هي الخائنة فأعلمه الله بالبرهان هذا المعنى فلم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربًا فأثبت بذلك الشاهد حجة له لا عليه وأما تفسير البرهان على ما ذكره المفسرون في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} فقال قتادة وأكثر المفسرين: إن يوسف رأى صورة يعقوب عليه السلام وهو يقول له يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء.
وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضًا على أصبعه، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مثل له يعقوب فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله وقال السدي نودي يا يوسف أتواقعها إنما مثلك لما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق عليه وإن مثلك إن واقعتها كمثله إذا وقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئًا ومثلك ما لم يتواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ومثلك إن واقعتها كمثله إذا مات ودخل النمل في قرنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه وقيل إنه رأى معصمًا بلا عضد عليه مكتوب: {وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون} فولى هاربًا ثم رجع فعاد المعصم وعليه مكتوب: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} فولى هاربًا ثم عاد فرأى ذلك الكف وعليه مكتوب: {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} الآية ثم عاد فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام أدرك عبدي يوسف قبل ان يصيب الخطيئة فانحط جبريل عاضًا على أصبعه يقول يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله من الأنبياء وقيل إنه مسه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله قال محمد بن كعب القرظي رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت فرأى كتابًا في حائط فيه: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} وفي رواية عن ابن عباس أن رأى مثال ذلك الملك، وعن علي بن الحسين قال: كان في البيت صنم فقامت المرأة إليه وسترته بثوب فقال لها يوسف عليه السلام لم فعلت هذا قالت استحييت منه أن يراني على معصية فقال لها يوسف أتستحيين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه شيئًا فأنا أحق أن أستحيي من ربي فهرب فذلك قوله لولا أن رأى برهان ربه أما المحققون فقد فسروا البرهان بوجوه الأول، قال جعفر بن محمد الصادق: البرهان هو النبوة التي جعلها الله تعالى في قلبه حالت بينه وبين ما يسخط الله الثاني البرهان حجة الله على العبد في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب الثالث إن الله طهر نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأخلاق الذميمة والأفعال الرذيلة وجبلهم على الأخلاق الشريفة الطاهرة المقدسة فتلك الأخلاق الطاهرة الشريفة تحجزهم عن فعل ما لا يليق فعله: {كذلك} يعني كما رأيناه البرهان كذلك: {لنصرف عنه السوء} يعني الإثم: {والفحشاء} يعني الزنا، وقيل: السوء مقدمات الفحشاء وقيل السوء الثناء القبيح فصرف الله عنه ذلك كله وجعله من عباده المخلصين وهو قوله: {إنه} يعني يوسف: {من عبادنا المخلصين} قرئ بفتح اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين اصطفيناهم بالنبوة واخترناهم على غيرهم وقرئ بكسر اللام ومعناه أنه من عبادنا الذين أخلصوا الطاعة لله. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}
طول المفسرون في تفسير هذين الهمين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق.
والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها ألبتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا تقول: إنّ جواب لولا متقدم عليها وإنْ كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد.
بل نقول: إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل.
وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان موجدًا الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفي الهم.
ولا التفات إلى قول الزجاج.
ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيدًا فكيف مع سقوط اللام؟ لأنه يوهم أن قوله: وهمّ بها هو جواب لولا، ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب.
وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي باللام، وبغير لام تقول: لولا زيد لأكرمتك، ولولا زيد أكرمتك.
فمن ذهب إلى أن قوله: وهم بها هو نفس الجواب لم يبعد، ولا التفات لقول ابن عطية إنّ قول من قال: إن الكلام قد تم في قوله: ولقد همت به، وإن جواب لولا في قوله وهم بها، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهمّ بها فلم يهم يوسف عليه السلام قال، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى.
أما قوله: يرده لسان العرب فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى: {إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين} فقوله: إنْ كادت لتبدي به، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدى به.
وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضًا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلًا عن المقطوع لهم بالعصمة.
والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب لولا محذوفًا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا لهم بها.
ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه.
وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين.
ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري، وابن عطية، وغيرهما.
والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه الله تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله، والله لا يمكن الهم به فضلًا عن الوقوع فيه.
كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء.
قال الزمخشري: الكاف منصوب المحل أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو مرفوعة أي: الأمر مثل ذلك.
وقال ابن عطية: والكاف من قوله: كذلك، متعلقة بمضمر تقديره: جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف.
ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته، كذلك لنصرف.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: همت به وهم بها كذلك، ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، لنصرف عنه ما هم به انتهى.
وقال الحوفي: كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: أريناه البراهين كذلك.
وقيل: في موضع رفع أي: أمر البراهين كذلك، والنصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها.
وقال أبو البقاء: كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك.
وقيل: في موضع نصب أي: نراعيه كذلك، انتهى.
وأقول: إن التقدير مثل تلك الرؤية، أو مثل ذلك الرأي، نرى براهيننا لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصب للكاف ما دل عليه قوله: لولا أن رأى برهان ربه.
ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف.
ومصدر رأى رؤية ورأي قال:
ورأى عيني الفتى أباكا ** يعطي الجزيل فعليك ذاكا

وقرأ الأعمش: {ليصرف} بياء الغيبة عائدًا على ربه.
وقرأ العربيان، وابن كثير: {المخلصين} إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام، وباقي السبعة بفتحها.
وفي صرف السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}
بمخالطته إذِ الهمُّ لا يتعلق بالأعيان أي قصدتْها وعزمت عليها عزمًا جازمًا لا يَلويها عنه صارفٌ بعد ما باشرت من مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليقِ الأبواب ودعوتِه عليه السلام إلى نفسها بقولها: هيتَ لك، ولعلها تصدّت هنالك لأفعال أُخَرَ من بسط يدِها إليه وقصدِ المعانقة وغير ذلك مما يَضْطره عليه السلام إلى الهرب نحوَ الباب، والتأكيدُ لدفع ما عسى يُتوهم من احتمال إقلاعِها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر: {وَهَمَّ بِهَا} بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبيعةِ البشرية وشهوةِ الشباب وكونه ميلًا جبليًا لا يكاد يدخل تحت التكليفِ لا أنه قصدها قصدًا اختياريًا، ألا يُرى إلى ما سبق من استعصامه المُنْبئ عن كمال كراهيتِه له ونفرتِه عنه وحُكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمِّ منه عليه السلام تسجيلًا محكمًا وأنه عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعِه في صحبة همِّها في الذكرِ بطريق المشاكلة لا لشَبَهه به كما قيل، ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يُلَزّا في قَرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد همّا بالمخالطة أو همّ كلٌّ منهما بالآخر، وصُدّر الأولُ بما يقرر وجودَه من التوكيد القسمي وعُقّب الثاني بما يعفو أثرَه من قوله عز وجل: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} أي حجتَه الباهرةَ الدالة على كمال قبحِ الزنى وسوءِ سبيله، والمرادُ برؤيته لها كمالُ إيقانِه بها ومشاهدتِه لها مشاهدةً واصلة إلى مرتبة عينِ اليقين الذي تتجلى هناك حقائقُ الأشياء بصورها الحقيقيةِ وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطق به قولُه عليه السلام: «حُفّت الجنةُ بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهانِ النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه أقبحَ ما يكون وأوجبَ ما يجب أن يُحذر منه ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحُكمِ بعدم إفلاحِ من يرتكبه، وجوابُ لولا محذوفٌ يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدتُه برهانَ ربه في شأن الزنى لجَرى على موجب ميلِه الجِبليِّ ولكنه حيث كان مشاهدًا له من قبلُ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدةُ هذه الشرطيةِ بيانُ أن امتناعَه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدةٍ من جهة الطبيعة بل لمحض العفةِ والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتبِ المقدّمات الخارجيةِ الموجبةِ لظهور الأحكام الطبيعية.
هذا وقد نص أئمةُ الصناعة على أن لولا في أمثال هذه المواقعِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصيغةُ مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ كما في مثل قوله تعالى: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا}
فلا يتحقق هناك همٌّ أصلًا. وقد جوز أن يكون: {وهم بها} جوابَ لولا جريًا على قاعدة الكوفيين في جواز التقديم فالهمُّ حينئذ على معناه الحقيقي، فالمعنى لولا أنه قد شاهد برهانَ ربه لهمَّ بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامِه وما يتفرع عليه انتفى الهمُّ رأسًا، هذا وقد فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حلّ الهَمَيان وجلس مجلسَ الخِتان وبأنه حل تِكّة سراويلِه وقعد بين شُعَبها، ورؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتًا: إياك وإياها فلم يكترثْ ثم وثم إلى أن تمثّل له يعقوبُ عليه السلام عاضًّا على أنملته وقيل: ضرب على صدره فخرجت شهوتُه من أنامله، وقيل: بدت كفٌّ فيما بينهما ليس فيها عضُدٌ ولا مِعصمٌ مكتوبٌ فيها: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَامًا كاتبين} فلم ينصرف، ثم رأى فيها: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا} فلم ينتهِ ثم رأى فيها: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} فلم يَنْجَع، فقال الله عز وجل لجبريل: «أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة» فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول: يا يوسفُ أتعملُ عملَ السفهاء وأنت مكتوبٌ في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيزِ، وقيل: إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها.
{كذلك} الكافُ منصوبُ المحلِّ وذلك إشارةٌ إلى الإراءة المدلولِ عليها بقوله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} أي مثلَ ذلك التبصيرِ والتعريفِ عرفناه برهاننا فيما قبل، أو إلى التثبيت اللازمِ له أي مثلَ ذلك التثبيتِ ثبتناه: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} على الإطلاق فيدخل فيه خيانةُ السيِّد دخولًا أوليًا: {والفحشاء} والزنى لأنه مفْرِطٌ في القبح وفيه آيةٌ بينةٌ وحجةٌ قاطعةٌ على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجَّه إليها قط، وإلا لقيل: لنصرِفَه عن السوء والفحشاء، وإنما توجه إليه ذلك من خارجٍ فصرَفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفةِ والعصمةِ فتأمل. وقرئ {ليَصرِف} على إسناد الصرْف إلى ضمير الرب: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} تعليلٌ لما سبق من مضمون الجملةِ بطريق التحقيقِ، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادحٌ فيها، وقرئ على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيين فهو منتظَمٌ في سلكهم داخلٌ في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملةِ الاسميةِ لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادةُ احتمالِ صدورِ الهمِّ بالسوء منه عليه السلام بالكلية. اهـ.